هل دنَّس عبد الزهرة زكي مقدَّس سركون بولص؟

المقاله تحت باب  أخبار و متابعات
في 
06/11/2014 06:00 AM
GMT



هل أصبحت حرية الرأي لدينا مجرد شعارٍ يعلن عنه بين الحين والآخر؟ وهل يمكن أن نقول أننا استعرنا جلود جلادينا لنرتديها بدلاً عنهم بعد صراع مع ديكتاتوريات متتالية مطالبين بحرية لم نفهمها حتى الآن؟
أسئلة كثيرة تدور بين المثقفين العراقيين بعد أكثر من أحد عشر عاماً من إسقاط نظام ديكتاتوري لم نكن لنستطيع أن نقول رأياً في زمنه، حتى لو كان بين الأصدقاء. لكننا في الوقت نفسه لم نستطع أن نغير من سلوكنا الذي جُبلنا عليه، فما زالت الصحافة العراقية ترفض أيَّ رأي صريح يمس أية شخصية، إن كانت تاريخية أو دينية أو سياسية أو حتى أدبية، فالجميع مقدس، خصوصاً إذا كانت هذه الشخصية لراحل لا يستطيع أن يدافع عنه نفسه، أو ربما يوافق الرأي الذي قيل عنه.
المقدس هنا ليس بالمعنى الديني، بل إنه ربما تحوَّل لطوطم بعد تاريخ طويل، إن كان من الأعمال الجيدة أو حتى الرديئة، الاثنان سواء في نظر بعض المثقفين والأدباء العراقيين، فلا أحد يمكنه أن يقول أن نازل الملائكة لم تكن شاعرة على مستوى مجايليها، حتى إن كان من ناقد عمله تحليل النصوص وتفكيكها وإعادة قراءتها من جديد. ولا أحد يمكنه أن يعلن أن ثمة شاعراً معروفاً سرق جميع نصوصه من صديق أعدم أمام عينيه، فبدأ بنشرها نصاً بعد آخر وصولاً لأعمال شعرية كاملة، وهو لا يجيد القراءة ولا الكتابة حتى يوم رحيله، على الرغم من أن الجميع يعرف هذه المعلومة.

معارك جديدة

ربما لم نفكر بهذه الحرية التي لم نعرف إلا اسمها لولا المعارك الجديدة التي أثيرت حول رأي قيل في ذكرى رحيل الشاعر العراقي المعروف سركون بولص، هذا الرأي كتبه الشاعر عبد الزهرة زكي في صفحته بالفيسبوك، كرأي قال أنه يتحمله لأنه قاله بعد دراسة طويلة لنصوص بولص، ويتلخص بـ»في ذكرى شاعر راحل لن يكون لطيفا أن تكتب ما يسيئ للذكرى وللشاعر، ولكن لا أجد في الأمر جرحاً لمشاعر محبيه حين يقول واحد مثلي حاول مرات كثيرة أن يقرأ الشاعر سركون بولص، إن سركون يكتب قصائد هي في معظمها مجموع جمل قد يمتلك بعضها طاقة الشعر غير أنها تظل تعاني من غياب روح القصيدة وجوهرها العضوي.
أحسب أن شخصية سركون، وأنا احترمه كثيراً، هي أكبر من حاصل التجربة الشعرية وأشد تأثيراً منها في من يحبونه.
شخصيات مثل سركون بولص قيمتها هي في كونها تمهد للآخرين طرق الحرية، وهذا أمر ليس بالقليل.
كثيرون يصنعون الحرية لكن زادهم منهم شحيح».
لم يرق هذا الرأي لكثيرين، لأن بعضهم يعد بولص إلهاً لا يمكن المساس به، فانهالوا على عبد الزهرة زكي بالشتائم والتنديد بتاريخه الطويل، كما فعل الشاعر حسين علي يونس حين بدأ بكيل الشتائم من دون أي مبرر أو أدلَّة على كتبه. وهناك من وافق يونس على كل ما كتبه لأسباب لا أحد يعرفها، ربما لكراهية قديمة مع زكي، أو حسداً حسب ما أكد بعض الأدباء في تعليقاتهم على تلك الآراء.
من جانبه أثار زاهر موسى في مقالة نشرها في أحد المواقع الألكترونية، مدافعاً عن بولص ومديناً لزكي: «هل يعقل أن يكون سعدي يوسف وعبد الوهاب البياتي وسرگون بولص مادة للتذوق بعد شراهة عقود استنفدت شعريتهم حتى القطرات الأخيرة؟! ربما يمكن تمرير فكرة ثياب الامبراطور التي وجدها فوزي كريم منطبقة على بعض الاشتغالات في الشعرية العراقية، ولكن هل يمكن وضع هذه الأسماء تحت طائلة البند السابع أدبيا حسب مقررات شعراء لم (يبلغوا الرشد)؟!».
مضيفاً أن الأمر لا يتعلق هنا بالعمر، ربما يجدر إدانة مواقف البعض سياسياً ووضع الأدب في هذا التبويب كأداة قاتلة، ولكنه عند هذه الأسماء لم يقطر دما ولم يغن للراجمة ويرى الشهداء نجوما على كتفي رئيس. حمّى التقارب الالكتروني بجانبيه العام والخاص تضفي على المشهد نجومية فارغة وادعاءات مزيفة، والهدف من هذه القنابل الإعلامية والآراء التي تتقاطر عليها الأحرف هو تغييب ذائقة الشباب وتوجيههم لعبادة صاحب الرأي باعتباره محطم الوثن. هكذا يتطابق الشاعر الشاب مع خبير الأزمات الثقافية في موديلات المرحلة، هجوم على شاعر يساري كبير يملك قصائد ترشق الأرواح بمطر مختنق في الصدور ولم يكن معولا في يد نظام دكتاتوري فاشي، وهكذا يؤمن الجميع بالمواهب الصغيرة التي لم تجد فرصة اتمام أحلامها ولكن على حطام صورة الشعراء الكبار.
الأمر نفسه فعله الشاعر نصيف الناصري، فكتب بانفعال عن زكي، لكنه عاد مرَّة أخرى وقدَّم اعتذاراً نشره على صفحته بالفيسبوك، قائلاً: «نشر صديقنا الشاعر عبد الزهرة زكي البوست الذي قرأناه عن رأيه بشِعر سركون بولص. طبعاً، وجهة نظر خاصة مِن شاعر وهذا مِن حقه. إني ومع كلّ الأسف اندفعت أكتب أشياء أخجل منها الآن لا تراعي للصداقة جوهرها ولا لوجهات النظر الأخرى قيمة مُعيّنة».

زكي يدافع عن نفسه

بعد أيام من الآراء والتصريحات التي أبداها بعض الأدباء، فضلاً عن الشتائم التي تبناها آخرون، نشر زكي أكثر من بوست مدافعاً عن رأيه ومبرراً له في الوقت نفسه، مبيناً أن ما طرحت عن سركون بولص هو انطباع جرت صياغته بأسلوب يتناسب وطبيعة منشور فيسبوكي (أليس لكل مقام مقال؟)، وهذا الرأي ليس وليد صدفة أو مناسبة رحيله وليس له أي دافع..
مضيفاً أنه حاول قدر ما يستطيع أن يظلّ هادئاً متماسكاً في مواجهة حملة منظمة أثيرت ضده خلال الأيام الأخيرة، و»هي حملة بدت مخططاً لها وأديرت بلا شرف ولا نبل ولا رجولة، وقد جرى فيها استخدام موضوع ثقافي لأغراض لا صلة لها بالثقافة ولا بمبادئ الحوار. حاولت الترفع وإبقاء صلتي ثقافية ونقدية خالصة بكل ما قيل من كلام بعضه جاد ويستحق الاحترام وكثيره إما متواضع ثقافياً أو لا يتعدى السفاسف والترهات والتعبير عن نقص في الأخلاق ونقص في القدرة على أن يكون بعض الناس بشراً أسوياء».

حريات منقوصة

خلال أيام من الاتهامات التي تبادلها بعض الأدباء حول رأي عبد الزهرة زكي، معارضين ومدافعين، باحثين عن حرية الرأي أو رافضين له، انفتحت أبواب كثيرة يمكن أن تؤشر لبعض الآراء التي يمكن أن تكون مفتتحاً لمرحلة جديدة، ستأتي قريباً أو لا تأتي. إذ يقول الكاتب لؤي حمزة عباس إن قناعته بأن النقد جوهر العملية الثقافية ومن دونه تتنازل المعرفة عن شرطها الأساس، ومن ثمَّ دوّنَ خلال مشاركته بالحوار حول قضية زكي تصوّراً مغايراً وحاول قدر استطاعته بيان فهمه بصدده، مضيفاً: «مراقبتي- وهي الأهم- لكل حوار يدور بين أصدقاء ينتمون للثقافة، العراقية أو العربيّة، لملاحظة طبيعة الوعي وآليات الحوار وهما يعبّران عن ممكنات العقل التي لا يمكن لأمة أن تشكّل موقفاً نقدياً من دونها». وفي معرض حديثه يشير عباس لنقطتين: منطق الإدانة السائد في الثقافة العراقية، وحضور الصديق عبد الزهرة زكي. «أعتقد من بين أفضل ما عبّر عن تلك المرحلة في الشعريّة العراقية هما قصيدتا (هذا خبز) و(الملائكة في مستشفى الأطفال) للصديق عبد الزهرة زكي. وقد حقق فيهما قيمة فنية في إعادة إنتاج الواقعة من دون أن يتنازل عن بداهة العمل الشعري، مثلما أعتقد بقيمة ما كتبه عبد الزهرة وقتها من دراسات لم تتنازل عن دورها الثقافي ولم تسفّ أو تهادن». ومن الجدير الإشارة إلى أن قصيدة (هذا خبر) قد نشر للمرة الأولى في جريدة القدس العربي، وأخذت شهرتها من الجريدة لتتناقلها بعدها الصحف العرابية والعراقية، للتعبير عن طبيعة الحياة العراقية في ظروف الحصار الاقتصادي.
من جانبه يبيّن الشاعر سليمان جوني أن الإفراط في تقديس الشعر والشاعر إلى حد تكفير الآخر من خلال النيل منه شخصياً، هو محاولة من إجل العودة بالشعر إلى جذوره الأولى كراعٍ للسلطة «سلطة الدين»ن ولكن السلطة المبتكرة هنا هي شكل من أشكال الابتكار الاجتماعي ضد الآخر، من أجل نزع أجنحته، وتلك نظرة العبد التي لا تعرف العيش داخل الحرية ولا تعرف الطيران، «الخلاف على شعرية سركون بولص هي المثال الأقرب إلينا».
أما الشاعر علي نوير فيشير إلى أن الأحكام المُطلقة في الشعر و الشعراء (وسواهم بالتأكيد) قتلتنا، «ليس هناك شاعر جميل وكبير ومتفوّق في كلّ ما كتب، أهم الشعراء أولئك الذين لا نكاد نظفر منهم بسوى قصائد قليلة، وهناك من لا نظفر منهم بسوى مقاطع حسب، و هناك من لم يبق أو سيبقى منهم شيء يُذكَر، هذا هو حال الشعر في كلّ آن، أعرف أن حدود ما نقوله هنا قد تتسع لآخرين وقد تضيق أمام سواهم».

عن القدس العربي